هاتفني صديقي الشاعر عدنان الصائغ المقيم بلندن، وكان صوته مبلّلا بالفرح، وحين سألته عن سبب فرحه، أجاب: "لقد نبهني أولادي إنّني بلغت الستّين، وبهذه المناسبة حجزوا لي تذكرة للسفر إلى اليابان، والصين للاحتفال بهذه المناسبة السعيدة هناك".
ورغم إنّه يكبرني بسنوات قليلة لكنّني سألته مستنكرا: "أي سعيدة؟ لقد أشعرتني بالإحباط" فضحك، وعلّق قائلا: "لاتنظر للأمر من زاوية واحدة، بلوغ هذه السن في الغرب يعني بداية حياة جديدة".
وبالطبع، هذا لمن يحسن التعاطي مع هذه المرحلة العمريّة، وامتلك الإرادة، والعزم، وهو أمر ليس سهلاً، يقول الكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ: "الذي يبلغ الستين من العمر يحتاج إلى طاقات غير عادية حتى يبدأ بداية جديدة كلّ الجدة" فقد كان يرغب بتغيير نمط حياته، ولكنه يشعر بالعجز، شأن الكثيرين.
لقد أكبرت بأولاد صديقي هذه الالتفاتة التي جاءت بمناسبة اليوم العالمي للمسنين الذي يصادف الأول من أكتوبر من كلّ عام؛ كما أقرّت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، عام 1990م لتعزيز قدرة هذه الفئة العمريّة على مواصلة المساهمة في تنمية المجتمعات من خلال العمل التطوعي، ونقل الخبرات، للأجيال الأخرى كونها تحتلّ نسبة كبيرة من السكّان، وتشير أحدث احصائية لمنظمة الأمم المتحدة إلى أنّ تعداد المسنّين فوق 60 عاماً سيبلغ ما يقارب 1.4 مليار نسمة عام 2030 ، ومليارين بحلول عام 2050، مؤكّدة إنّ هذا العدد من المسنّين يقتضي وضع خطط، واستراتيجيات لضمان بيئة توفّر لهم الرعاية، والاهتمام.
ومن شأن هذه البادرات أن تجعل الوالدين يشعران بالامتنان، والسعادة، وفي الوقت الذي يخفي الكثيرون، وبخاصّة النساء، الأرقام الصحيحة للأعمار، فإنّ أوّل سؤال يواجهك به الكوري خلال لقائه الأوّل بك هو عن سنّك، لكي يتحدث معك بلغة تليق بك، فبالطبع هناك اختلاف في الأحاسيس، ينيغي مراعاتها ، هذه الاختلافات رصدها الباحث موسى الخطيب، فرأى إنّ الرضا يكون أقلّ في مرحلة الشباب، بينما أعلى بعد الستين، عكس الإحباط الذي هو كثير عند الشباب أقل بعد الستين، ولا وقت للصداقة عند الشباب، بينما هي المتنفّس الحقيقي لما بعد الستين، أما التأقلم فهو غير موجود عند الشباب، ويتوافر عند الستينيّين تجاه الحياة، والظروف المتغيرة، ولا يحتاج الشاب التكافل بينما يحتاج له بعد الستين، مثلما يزداد الإقبال على الإيمان بعد الستين، وتستعاد الهوايات الماضية التي تناساها وسط زحام العمل.
الحديث عن المسنّين يعيد للذهن كتاباً لسلامة موسى عنوانه "حياتنا بعد الستّين" يرى به إنّ سنوات ما بعد الستّين قد تكون من أمتع سنوات العمر لو تمكنّا من أن نعد أنفسنا لها منذ مرحلة الشباب، التي تتسم بالفوران الذهني، والعاطفي، والبدني، فبمجرّد التقدّم في السن، واجتياز الأربعين تبدأ هذه الفورة تهدأ، فتسكن العواطف، ويبرد الحماس، وهنا لابدّ من عدم الاستسلام للأفكار السلبيّة ليظلّ الستينيّ صامداً بوجه الزمن، فسنوات العمر تقاس بقوّة الروح، كما يقول الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي:
سنّي بروحي لا بعد سنين
فليسخرن غداً من التسعينِ
عمري إلى السبعين يركض مسرعاً
والروح باقية على العشرينِ
وطبقاً لهذا، لا تقاس الأعمار بالسنين، وإنّما بما يحقّقه الإنسان لمجتمعه من إنجازات، والمشكلة لدينا إنّ مجتمعنا يفرض على كبار السن نمطاً من الحياة، يقول الكاتب حسني عايش: "تقضي التقاليد البالية في المجتمعات العربية باحتقار الفنون، والفنانين، وبالابتعاد عنها كلما تقدّم المرء بالسن، وبالتظاهر بالرزانة، والوقار حتى في حفلة زفاف الابن، أو البنت، فلا يشارك الواحد منا في غناء، أو رقص، حتى لا يساء فهمه، أو يستغاب، وتقلّ قيمته"، هذه التقاليد تقيّدهم، وتسلبهم حريّتهم، وتحدّ من مشاركتهم في الحياة العامّة، وتسلبهم الحياة، وصولاً إلى "إضافة حياة للسنوات، وليس فقط سنوات للحياة"، كما يشير شعار الاحتفال بيوم المسنين الذي مرّ مرور الكرام، في بلداننا، لأنّ المهم بالنسبة لنا: كيف نعيش السنوات الإضافية، ونملأها حياة، ومن الملاحظ إنّنا، في دولنا العربيّة لا نهتمّ بشريحة المسنّين، إلّا ضمن حدود التقدير الاجتماعي، وقانون التقاعد، والرعاية الاجتماعيّة، قياساً لما هو حاصل في دول الغرب التي تولي المسنين اهتماماً خاصّاً من خلال رعايتهم، وتقديم التسهيلات اللازمة لهم، ومنها جعل ركوب وسائل المواصلات خدمة مجّانيّة، بينما لا يتمتّع كبار السن عندنا بأيّ امتيازات سوى المكانة الاجتماعية، وتقدير، واحترام، وهذه متفاوتة حسب تنشئة الأجيال الجديدة .
لذا علينا تقدير هذه الفئة التي أعطت سنوات من العطاء في ظل التوجهات العالمية لرعاية هذه الفئة، فتعيش مرحلة شبابيّة رغم بلوغها السن القانونيّة!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق